أخبار عاجلة

دراسة نقدية: بين فعل التثوير والتغيير ومسرح شباب الربيع وما بعده في اليمن

‏  40 دقائق للقراءة        7922    كلمة

969746_467413820022183_196278847_n

دراسة نقدية: بين فعل التثوير والتغيير ومسرح شباب الربيع وما بعده في اليمن

 الحديدة نيوز – هايل المذابي – اليمن

مهاد

لعل من الصعب القول أن ثمة مسرح للشباب في اليمن في ظل إنعدام المسرح في اليمن عموماً، حيث أن ما هو موجود لا يحكم أو يقاس عليه فهو قليل، ورغم ذلك فإن ثمة ظواهر مسرحية شبابية تقتضي تسليط الضوء عليها والحديث عنها رغم قلتها فهذا القليل هو ما يحدث الفارق دائماً في تاريخ الفن والشعوب، ومن ذلك ما سأتناوله في هذه الدراسة النقدية والبحثية عن مسرح الشباب الثوري في اليمن أثناء وبعد ثورة الربيع 2011م والذي لم نجد أي نص مسرحي شبابي مطبوع يتناول موضوع الثورة والتغيير سوى ما تبنت طباعته الأمانة العامة لجوائز رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب ولعل أهم تلك الأعمال المسرحية الشبابية المرتبطة إرتباطاً وثيقاً بموضوع هذه الدراسة البحثية مسرحية ” ملامح شظايا ” الفائزة بجائزة دبي الثقافية للعام 2011م للكاتب عبدالخالق سيف محمد الجبري.

–         في التجربة المسرحية للجبري (ملامح شظايا) والتي ينشد فيها استنهاض العزائم الشبابية والعلمية في الوطن العربي من أجل تأسيس واقع جديد، جوهره وغايته : نشر الحرية، وتوسيع قاعدة الديمقراطية، وهدم معابد وأنظمة الديكتاتورية، وسيادة القانون، وقيام دولة العدالة الاجتماعية، والإنسلاخ من تبعية وسلطوية القوى الغربية. والتأكيد على دور الفرد في بناء المجتمع، ودور المجتمع في بناء الدولة، واحترام أدمية وحقوق المواطن، وإرساء مفهوم المواطنة. في هذه التجربة (ملامح شظايا) اعتقد أن أهم ما يكسبها أهمية خاصة في خريطة الحركة المسرحية اليمنية إضافة إلى ما تقدم –  ليس لكونه فقط أول تجربة كتابية درامية يمنية ) تتصدى لموضوع الثورات العربية المعاصرة، وليس فقط لعمق مضامينه الفكرية التي تنحاز للطبقة المتعلمة من الشبيبة، وللبسطاء من الناس، وللكادحين من أبناء الطبقة الوسطى وللمقهورين والمظلومين والمحبطين من الشعب العربي، وليس فقط لأنه يقدم للمتلقي خطاباً سياسياً عقلانياً، يدعو إلى استقلالية الفعل والإرادة العربية، وليس فقط لكونه من النصوص المسرحية الشبابية اليمنية القليلة المهمومة بالقضايا العربية… ولكن فوق هذا وذاك لكونه يبعث أملاً جديداً في تجديد مسارات الكتابة المسرحية الدرامية في اليمن، على نحو يعزز من قيمة النصوص المسرحية التعبيرية ذات الرؤى والمضامين السياسية، والتي تحمل في خطابها قيماً ثورية، كثيراً ما تفتقدها الساحة المسرحية اليمنية.

 

المسرح سلوك أم فعل ؟

إذا كانت الفنون جميعا تقتضي الحرية لتؤدي وضيفتها الطبيعية في المجتمعات وتحدث تغييرها الإيجابي في البشر وتطهرهم من لواعج نفوسهم وما يعتريهم من مخاوف فإنه بالضرورة لابد لهذه الفنون من حرية وفضاء واسع وسقف لا يحده حدود ولأن المسرح كان دائما وسيظل أباً لكل الفنون سواءً بما يشمله من أطوار فنية حتى يصل في صورة العرض النهائية للناس، فتلتقي فيه جميع الفنون، أو لما يمثله وجوده من سبق وظهور وأقدمية للفنون جميعاً ما يجعل سقف حريته بالضرورة عاليا وغير محدود..

والمسرح في أقصى غاياته – شأن مسرحية “ملامح شظايا” – محاولة لإثبات الذات وتحقيق الوجود، لأن الفن فعل وليس سلوك، لكن هذا التحقق وهذا الإثبات عن طريق الفعل لايتم إلا في ظل فضاء رحب من الحرية، ويشترطها قبل وجود الفن ذاته، يقول “جان بول سارتر” صاحب الخطوط الفلسفية الثلاثية ” الحرية , المسئولية , الالتزام، في حديثه عن الحرية وما تقتضيه، أن الإنسان يستطيع إثبات وجوده عن طريق الفعل , فالفعل هو محاولة لتغيير الحالة الراهنة لتحقيق حالة أخرى مغايرة ففيه إلغاء لشيء وإثبات لشيء آخر, وليس أي سلوك يسلكه الإنسان فعلاً , فقد نرى الكرسي يقع أو إنساناً ينزلق , فهذا سلوك وليس فعلاً , لأن الفعل قدرة على تغيير أوضاع تؤثر في عالم الموجودات وقد يضيق الفعل وقد يتسع , قد يكون تحية عابرة , وقد يكون معركة تقتل فيها مدينة بأسرها , وسارتر لا يقيم قيمة الفعل بما يترتب عليه من نتائج بل المهم عنده كما هو عند سابقه “كانط” أن يصدر الفعل عن حريتنا وعن إرادتنا , فالفعل الإنساني يفترض الحرية وهو تعبير عنها , وينتهي سارتر إلى القول بأن الحرية ليست مجرد صفة للوجود الإنساني بل إنها قوام هذا الوجود , وقد يحاول الإنسان أن يهرب من حريته ومسئوليته , يحاول  أن ينكر ذاته , ويرفض أنه موجود لذاته, على حد تعبير سارتر , ويسعى لإيهام نفسه بأنه موضوع وشيء كباقي الأشياء , وحتى في هذه الحالة , أي عدم وعيه بحريته وتخليه عن إرادته فإنما يكون حراً , ذلك لأنه اختار عدم الاختيار , إنه الكائن المحكوم عليه بالحرية وهو لا يستطيع أن يهرب من حريته لذلك يتسع مفهوم الحرية عند سارتر ليشمل الشعور والعاطفة بالإضافة إلى الفكر والوعي , وليس هناك شروط لتحديد أي الأفعال خير من غيره إلا مقدار صدورها عن حرية فاعلها , وليس هناك أسوأ من حالة النكوص عن المسئولية وتخلي الذات عن حريتها حين تقبل كل ما هو معطى لها جاهزاً.

إذن المسرح ونظراً لما يتناوله ولما يقوم به فعلاً وليس سلوكاً وهذا بالضرورة ما يلزمه أن يحدث التغيير في المتلقي وفي الواقع، وهو ذاته ما يجب أن تكون عليه جميع الفنون لا المسرح فحسب، فجميع الفنون في جوهرها وفي اقصى غاياتها ليست إلا أفعالا للتغيير ولإثبات الذات وتحقيق الوجود..

يبقى السؤال ما هي غاية الفعل، هل هي التطهير أم التثوير والتغيير ؟

هنا يمكننا الإجابة من خلال مسرحية عبدالخالق الجبري ” ملامح شظايا ” وبالتوضيح أولا لمفهوم التطهير ومفهوم التغيير والتثوير..

المسرح كونه فعل تطهير أم فعل تثوير وتغيير..!!

لعل أهم من اتضحت معالم رؤيتهم وفهمهم للمسرح هما أرسطو قديماً صاحب نظرية “الكاترزيس ” وبرشت صاحب نظرية المسرح الملحمي حديثاً واذا اردنا فهم طبيعة النظريتين فعلينا أن نتحدث عن كلاهما بشيء من التفصيل والمقارنة إذ لن تتضح الرؤية إلا بلغة الأضداد ولنعرف من ثمّ أين تلتقيان وأين تفترقان وأيضاً طبيعة جوهرهما..

المسرح الدرامي لدى أرسطو :

إن الإنسان في جوهره يميل نحو الشر وطبيعته لا أخلاقية ويأتي هذا حتمياً نتيجة لما يمتاز به الإنسان من غرائز تحرضه لإشباعها وممارسة اللا أخلاقيات..

يقول أحد الحكماء : (( الواقع أن الطبيعة البشرية غير طيبة ))، وأكد هذا الأديب والمفكر ( برونتيير ) بقوله  : ( إن الطبيعة البشرية طبيعة لا أخلاقية ).‏

وعندما نكون متفقين على هذا فإن جوهر المسرح يصبح على حد تعبير أرسطو  تطهير النفس البشرية من لواعجها ولا أخلاقياتها.. !!

كيف..!؟

لقد سمى ذلك الفيلسوف اليوناني أرسطو ” كاتارزيس ” أي التطهير لكنه لم يسهب في الحديث عنه أو في تفاصيله ولكنه عبر عنه في كتاب الشعر بالتطهر الفني الذي يحصل عندما يقرأ الإنسان أو يشاهد أو يصغي إلى ما يخافه ويخشاه ليتطهر منه على الواقع، والمسرح يجعل المتلقي بالضرورة يتطهر من مخاوفه الحقيقية على الواقع بطريقة مقبولة فنياً، وجميعها صور ومشاهد غير مقبولة البتة واقعياً، لكن المسرح يعالجها فنياً ويُطهر المتلقي منها فنياً..(أرسطو – فن الشعر )

إن علاقة المسرح بالمتلقي هي علاقة المشاركة الإدراكية والحركية والوجدانية وبإنعدام هذه المشاركة لايتحقق التطهر لدى المتلقي من لا أخلاقياته ومخاوفه وما تحثه دائماً غرائزه على فعله..

ويؤكد الأطباء النفسـيون ( إن الغرائز العدوانية والغرائز الجنسية تطالب بحقها، لأنها لا تستطيع أن تمنح نفسها الحياة في الحقيقة الواقعة، لذا فهي قد تحصل في مجال الفن على ترضية بريئة ومثالية، وبهذا يصبح الفن بمثابة الاشتقاق أو صمام الأمان بالنسبة للإنسان.)

وبالتأكيد إذا كانت طبيعتنا البشرية طبيعة لا أخلاقية أساساً، وكل ما يقدم لنا عبارة عن نصائح سيئة ولا سبيل لمقاومة هذه اللا أخلاقيات، فماذا نفعل؟

 وهل يمكن أن يكون لهذه اللا أخلاقيات سبباً خارجاً عن إرادتنا أو إنها قد تكون كشفا إلهياً  كان قد فرض علينا ؟، أو أنه مجموعة تمثيلات جماعية كان قد تشرّب بها مجتمعنا الإنساني !!، وكيف تستطيع هذه اللا أخلاقيات أن تصدر لنا كل هذه الأوامر فنطيعها !!، وكيف توقظ هذه الأوامر في نفوسنا هذا الصدى وكيف تمارس علينا كل هذه الجاذبية وهذه الضغوط..!!؟

 نعم، إن الإنسان في كثير من الأحيان يكون حيواناً أو وحشاً قاسيا، لكنه رغم كل هذا وذاك، فهو مخلوق غير فاسد كلياً فيه بذرة خير، والشر لديه نسبي لا مطلق مثلما الخير أيضاً لديه، ولا يخلو من بعض الخصائل الحميدة مثلما لايخلو من الشر.‏

وبالمثل إذا كانت غرائزه تدفعه وتستميله للشرور، كالتسلط واشباع شهواته وغيرها، فإن الفنون تمكنه من فعل الخير، والتطهر من كل الشرور، وبفضل الفن، يكون قادراً كذلك على إخراج الثمار الطيبة والعظيمة من نفسه.‏

كل ذلك العطاء الخير ينتجه الحب وتعكسه الأعمال الفنية المسرحية، ولذلك يجب أن يكون العمل الفني عظيما بما يحتويه من قيم إنسانية وكونية تضمن له الخلود وأيضا تكون واضحة ومضيئة وتحمل كل التناقضات في النفس البشرية بما في ذلك لا أخلاقيات شهواته ونزواته.‏

إن المسرح في جوهره دعوة صادقة للإفلات من قبضة الخوف والتطهر مما نخشاه على أرض الواقع، دون أن نمسه أو نمارسه حقيقةً، ولكن فنياً فقط، وبالتالي فإن فاكهة الخطيئة التي نستطيع أن نأكلها مسرحياً ستمنعنا النتائج التي تتبع أكلنا لها مسرحياً من أن نأكلها على الواقع وهذه هي الكاتارزيس التي كانت مهمة المسرح دائماً تحقيقها فنحن مسرحياً نتجرأ على الخطأ، ونتجرأ على الإنغماس في الخطأ، ونمارس وتجاز لنا كل اللا أخلاقيات لنتطهر منها واقعياً وهذه هي غاية المسرح وجوهر رسالته.

ولعل أهم سمات وخصائص المسرح الدرامي لدى أرسطو كما بينها برشت في جدول له هي :

أن المنظر يجسد الفعل، ويشرك الجمهور في هذا الفعل، ويستهلك نشاطه، والشكل الدرامي يزود الجمهور بتجارب، ويجعله قابلا للعواطف، والمتفرج يجد نفسه في وسط الفعل، كما ان المسرح الدرامي يؤثر بالايحاء، ويحافظ على المشاعر، ويفترض في الإنسان أنه معروف، والإنسان ثابت، والاستطلاع يتعلق بالحل، وكل منظر متوقف على الآخر، والأحداث تجري على هيئة خط مستقيم، والطبيعة لا تقوم بطفرات، والعالم كما هو، وما يجب على الإنسان أن يفعله، وغرائزه، والفكر يحدد الوجود (من الجدول الشهير الذي وضعه برتولد برشت لمسرحية ” مهاجوني” وهي الأوبرا التي مثلت للمرة الأولى في سنة 1920).

المسرح الملحمي لدى بريخت :

المسرح الملحمي يدعو إلى الفعل، ويزود بالمعارف، مستعيناً بالحجج، محللا العواطف إلى معان عقلية.

وهو يدرس الإنسان في أحواله، ويجد أنه رهين بهذه الأحوال، فيتغير إذا ما تغيرت، وبعبارة أخرى يفترض أن الإنسان ليس طبعا ثابتاً، بل هو كائن قابل للتغيير إذا ما تغيرت ظروفه الاجتماعية أو البيئية. وواضح ما في هذا من تأثر بمبدأ ماركس المشهور، وهو أن المطلوب ليس فهم الإنسان بل تغييره. وعلى هذا سنجد في المسرحيات الملحمية أن أحوال البطل وتصرفاته تتغير بتغير ظروفه الاجتماعية وأحواله المعاشية وملابسات البيئة، بينما نجده في المسرحيات الدرامية ثابت الطباع، وعن هذه الطباع الراسخة يصدر كل ما يبدر منه من أفعال وتصرفات. ولا تفسير لهذه إلا بذلك الطبع الثابت. وهذه نقطة بالغة الأهمية في مسرح برشت.

وعن هذه الخاصية تُستنبط الخاصية الثالثة، وهي أن لأحداث ترسم خطاً مستقيما في المسرحية الدرامية، لأن طبائع الشخصيات ثابتة، بينما هذه الأحداث في المسرحية الملحمية ترسم خطوطاً منحنية تتعرج وتدور وتتكسر وفقا للظروف الاجتماعية التي يحيا فيها الأشخاص.

وكذلك تستنبط الخاصية الرابعة، وهي أن المناظر، لانعدام الاتصال الثابت، يقوم كل واحد منها برأس، وليس مجرد حلقة في سلسلة كما هي الحال في المسرح الدرامي. إذ أن كل منظر يعبر عن حالة برأسها وجدت فيها الشخصية وفقا لإحداثيات اجتماعية ترتبط بها. إن الطبيعة في المسرح الدرامي لا تقوم بطفرات، لأن ثم منطقا باطنا نابعا من طباع الشخصية، أما في المسرح الملحمي فلا طبع ثابت، وبالتالي لا منطق باطن، بل ثم انتقالات مفاجئة، أعني طفرات.

ولما كان الوضع الاجتماعي (الاقتصادي خصوصا)  هو الحاسم في إحداث التغيرات، فإن هذا الوضع الاجتماعي هو الذي يحدد الوجود، ويحدد الفكر، وعلى العكس في المسرح الدرامي نجد الفكر هو الذي يحدد الوجود، لأن الفكر –في نظره-  هو الذي يغير الواقع الاجتماعي. وفي هذه الخاصية نرى التعارض المشهور بين دور الفكر عند هيجل (ويتمثل هنا في المسرح الدرامي)، ودور الفكر عند ماركس (وهو الذي يمثله هنا المسرح الملحمي أو مسرح برشت).

أين التقى الجمعان..!

مثلما وضحنا سابقاً في جزئية “المسرح سلوك أم فعل ” أن المسرح في شكليه الدرامي أو الملحمي فعل وليس سلوك وهذا الفعل يقتضي الحرية أولا ليُحدث التغيير في عالم الموجودات نستخلص أيضا من الجزئيات الأخرى في هذه الدراسة البحثية أن التطهر الذي يحدثه المسرح لدى أرسطو هو الوجه الآخر للعملة والتي هي لدى برشت فعل التغيير والتثوير..

كيف ؟

لو تذكرنا نهاية الثائر العملاق أرنستو تشي جيفارا بعد الخيانة التي تعرض لها وتم تسليمه إلى أيدي القوات الأمريكية وتحديدا عندما أراد قاتله إطلاق الرصاص عليه ولكنه كان خائفا وعاجزا عن أن يضغط على زناد بندقيته رغم أن جيفارا كان مكبلاً بالأغلال وما كان منه إلا أن يقول ” اقتلني لاتخف أنا مجرد رجل ” وهذه كانت خلاصة التجربة ومجمل رسالة جيفارا الثورية منذ البداية وحتى النفس الأخير فهو أراد أن يتحرر قاتله مما يستعمره من خوف وهذا ذاته يعني التطهر الذي تحدث عنه أرسطو وسماه ” الكاترزيس ” وكذلك يصبح الوجه الآخر لديه في هذه المقولة هو الإنتقال بقاتله من حالة الخوف إلى حالة أخرى هي الشجاعة وهذا تغيير وتثوير الإنسان على ذاته وهو ما يؤكد مسرح برشت مع الاعتبار في الذهن أن يظل الإنسان في حالة التطهر والتغيير محافظا على إنسانيته رغم التغيير الذي يحدثه في نفسه ولأجل هذا وذاك نجد أن الجوهر في كلا المسرحين واحد وهو الارتقاء بالإنسان مما يخشاه وتخليصه مما يستعمره سواءً كان بشراً أو شجرا أو حجراً أو مرضاً.

وبالعودة إلى ” ملامح شظايا ” نجد أنها كانت في أوضح غاياتها تنادي وتهدف إلى التطهير في شخصية الأسير آربيوس مثلا وشخصية الرجل الأعمى وتارة أخرى تفعل فعل التثوير عن طريق شخصية المجنونة مثلا للإنتصار لحقوق المرأة وشخصية شاب المسرح أيضا وكذلك في فكرة الخروج على النص والتمرد على الكاتلوجات في النهاية الكبيرة وفي نهاية كل مشهد تناولته المسرحية.

ولأجل ذلك يمكننا القول أن المسرح بشكليه الدرامي والملحمي التقيا في هذه المسرحية ولايصح التفريق بينهما دائما وإن كان ولابد من ذلك فيمكننا اعتبار الملحمي امتدادا للدرامي.

 

 

ملامح شظايا

.. ما من عملٍ عظيم إلا وكان الحدث فيه وسيلة لغايات عظيمة وعالية وقيم دهورية تحافظ عليه من الزمن فلا يبلى ولا يغيره كر الأيام أو فرها..

“ملامح شظايا ” مسرحية المبدع عبدالخالق محمد سيف الثانية،  وعندما نتجاوز أمر فوزها بجائزة دبي الثقافية ونستطلعها ونشرف عليها من فوق سنجد أنها تضمنت قيمة عالية وفلسفية، وهو ما سيؤدي بالتالي إلى بقائها عدا كونها تشكل علامة فارقة في تاريخ مسرح الشباب الثوري اليمني والعربي ..

ثمة قصة رمزية تقول  : اجتمع عدد من العلماء وأحضروا مجموعة من القرود ووضعوها في قفصٍ به سلم وأعلى السلم عناقيد موز..

أول شيء متوقع أن تفعله القرود هو صعود السلم من أجل الموز، وهنا يتدخل العلماء ويصبوا الماء البارد على القرود في القفص، فتفهم القرود من ذلك أن عليها منع أي قرد من الحصول على الموز وإلا فسيصب عليها ما تكرهه…!!

حينها وقد فهم الخمسة القرود داخل القفص ذلك قام العلماء بإخراج أحد القرود واستبداله بقرد جديد ويكون أول شيء يفعله القرد الجديد هو صعود السلم لكنه يتفاجأ بضرب بقية القرود له وإنزاله، لم يفهم من كل ذلك سوى أن ذلك محظور عليه..!!

ويستمر العلماء بعد ذلك في استبدال القرود القديمة بقرود جديدة ويتكرر نفس الأمر مع كل قرد جديد وهكذا حتى يكون كل من في القفص من القرود قد فهم أن عليه عدم صعود السلم وبدون أن يُرش عليهم الماء البارد..!!!

ماذا يحدث هنا..!!؟

قصة  مسرحية ” ملامح شظايا “

تحكي مسرحية ” ملامح  شظايا” الرمزية  قصة مخرج ومؤلف مسرحي يقبع في سلة للنفايات ويسميه المؤلف ” رجل السلة ”  يسعى طيلة  المسرحية إلى محاولة إرضاء سيده المبهم الملامح والغامض عن طريق ما يقدمه من نصوص تؤديها شخصيات كثيرة متعددة ومتنوعة تنتظر دورها تحت أغطية من القماش لتؤكد تفاصيل المسرحية استلهام الكاتب لمقولة شكسبير الشهيرة ” الحياة مسرح كبير ” فالمسرح الذي تؤدي فيه الشخصيات أدوارها هو الحياة ورجل السلة هو الشخصية التي تسعى دائما لإرضاء السيد الكبير ملائمة لأهوائه ومصالحه وطلبا في رضاه، لكن مالم يحسب له رجل السلة حسابا هو أن تخونه الشخصيات بخروجها عن النص الذي كتبه لها وأخرجه، بطريقة ثورية تنتصر فيها لنفسها ولكرامتها ولإنسانيتها وحقوقها وما ترغب في أن تكونه هي وليس رجل السلة ثم يكتشف رجل السلة أن كاتب الخاتمة لكل النصوص هو ضميره بطريقة خيانة ثم تنتهي المسرحية بإحراق رجل السلة وسيده أخيرا..

التحرر من القطيع

مسرحية ” ملامح شظايا ” تصوير بليغ لفكرة التحرر من القطيع والخروج على النص بل والثورة عليه وهي ذاتها منهجية إبراهيم عليه السلام في رحلة البحث عن الله فقد تجرد من القطيع الذي يسكن قومه ووالده وقام بتحطيم الأصنام لمحاولة تحريك العقل لديهم، فكان إبراهيم عليه السلام أول الثائرين في التاريخ وبغض النظر عن موضوع ثورته ويكفي أنه أول من قال لا وخرج عن النص وعما يردده قومه..

إنه صوت سبارتاكوس ” من قال لا في وجه من قالوا نعم ” وصوت ماكسيم غوركي وهو يحرض الجماهير المطرودة من المسرح بقوله : ” خلقنا لنعترض “.

نورد الحوار الأخير من المسرحية الذي يشرح فكرة الخروج على النص قبل الحديث عن الكاتلوج..

 ((رجل السلة : لا يجب أن نتفق.. لا يجب أن نتحد.. لابد أن نستعذب حالة العجز واليأس وأن تظل الصراعات المذهبية والمناطقية بيننا.. أعلم هذا الدرس أيها السيد الكبير ولكني لا أدري من الذي يخونني ويغير هذه المبادئ القذرة التي تعشقها.

(لا يبدو أنه شعر بالكلمة الاخيرة )..

يصمت كمن يصغي إلى ذلك السيد الكبير ويهتف باستنكار.

ماذا تقول؟

أنا كاذب ومراوغ.. أنا تقول عني هذا بعد كل ما فعلته من أجلك.

(يرتفع صوت غريب نسمعه لأول مرة صوت مليء بالغضب والاستعلاء )

الصوت الغريب : ارجع إلى أوراقك التي كتبتها أيها الكاذب اقرأ خاتمة كل مشهد قدمته وعرضته عليك.

(يقلب رجل السلة الأوراق )

رجل السلة : ها هي خاتمة المشهد الأول التي لم أكتبها أنا وإنما هو ذلك الخفي الذي يخونني (يصل إلى خاتمة المشهد الأول ويبدو كمن اكتشف شيئا لم يكن يتوقعه ).

فبدأ يقلب الأوراق والمشاهد في هستيريا ويزداد ذهوله كلما قرأ خاتمة كل مشهد وارتفع صوته المتقطع بصعوبة بالغة فتسمع كلمته المجروحة وهو يقول..

رجل السلة : لا أصدق هذا أيها السيد الكبير أن خط  الخائن الذي زور هذه الخاتمة في كل مشهد لا يختلف عن خطي أنا.

صوت السيد الكبير : بل أنت الخائن المخادع.. وهذا هو خطك الذي أشعل كل نهاية سعيت لإخمادها.

رجل السلة (بذهول) : أنا من كتبت كل هذه النهايات التي تحاربها أنت وتكرهها؟!

صوت السيد الكبير : نعم.. أنت

رجل السلة : إذاً أنا من كنت أخون نفسي..! (يصمت ثم يكمل) بل هو الذي كان يخونني.. نعم إنه ذلك الطاهر المزروع في أعماقي (يصمت ثم يكمل بمقت وكراهية )  رغم أنف السيد الكبير.

(نسمع أصواتاً مزعجة تملأ أرجاء المكان وكأنها تعبر عن غضب السيد الكبير)..

صوت السيد الكبير : وسوف تدفع ثمن خيانتك لي وعلى عدم قتلك الطهر في أعماقك أيها القذر.

(نسمع صوت الأقدام وهي تتحرك وأن السيد الكبير يعلن عن رحيله وأنه يختبر ولاء رجل السلة ).

رجل السلة (وكأنه صحى من كابوس مزعج وبنبرة تحدٍ وتمرد على ذلك الماضي المطرز بالمذلة ارتفع صوته ) : لم أعد أدري ما الذي تريده مني..؟ ألا يكفيك ما قاسيته وعانيته وأنا أكتب وأخرج ما تريده أنت رغماً عني (تزداد انفاسه سرعة فيحاول أن يتمالك نفسه وكأنه مصمم على إخراج تلك الحمم المخبأة في بركان صدره ويصرخ بتحدي) : يا.. أنت.. يا أيها المتربص بي كالموت… هيا كشر عن أنيابك المخفيات تحت رقة قبلات واغرسها في نياط عقلي… دعني أنزف حتى الحياة.. فأنا أحتاج إلى حبرٍ جديد… لأني لم أعد أحتمل… (يكررها بثورة وهو يجري في كل أرجاء المكان نازعاً كل الأغطية عن جميع الشخصيات واحداً تلو الآخر ) هيا أيتها الشخوص انطقي… فأنا لم عد أحتمل !

(تنهض كل شخصية مغطاة وهي تطلق آخر عبارة أدتها في مشهدها ).

الأسير أربيوس : (وهو يرتفع على القائدين): ستهزمون.

شاب المسرح (وهو يتحرك في مكانه) : دون يأس استمر بالأمل.

الفتاة المجنونة : أريد أن أحيا بعقل.. حتى لا أكتشف عندما أموت أنني لم أعش.

الرجل الأعمى : المبصر اليائس والعاجز هو الأعمى الحقيقي فليتكم تتحدون.

(تداخلت أصواتهم في تناغم عجيب وهم يكررون عباراتهم الختامية بينما رجل السلة يتجه بخطوات متخاذلة إلى السلة وهو يصرخ.

رجل السلة : لم أعد أحتمل… لم أعد أحتمل.

يختفي داخل السلة فترتفع ألسنة النيران داخلها ونسمع صرخات رجل السلة وهو يكرر عبارته التي امتزجت بذلك التداخل في الحوارات بين كل الشخصيات لترسم لوحة قوية وغريبة في ذات الوقت وتبدأ كل شخصية تلو الأخرى بالصمت حتى لم يتبق إلا صوت رجل السلة الذي احتل المكان بعبارته الأخيرة التي تنتهي فيغرق المكان في صمت مهيب… صمت يحمل معنى واحداً وهو أن المشهد انتهى.   ))

الكاتلوج

لم تكن العظمة في شخصية أديسون تكمن في اختراعه للمصباح كما قد يخال البعض بل وهو الأهم في تجاربه التي وصل بها إلى ذلك الاختراع إذ بلغت تسعة آلاف وتسعمائة  وتسعة وتسعون تجربة وكانت التجربة العشرة ألف هي المصباح، والمثير في ذلك وما هو مدعاةٌ للتأمل وجديرٌ بالاهتمام في الأمر أن أديسون لم يكرر خطأً ارتكبه في تجربة سابقة في تجربة تليها، والأمر هو أن المرء لا ينتبه إلى خطأ إلا بعد أن يفعله فالطفل، وهو ما يسمى بالملاحظة بالتجربة في المنطق، لا يسمع كلام النهي والتحذير إلا بعد التجربة فلو قلت له مثلا ألا يلمس الفرن الساخن لأنه سيحرق فانه لا يستجيب لك إلا بعد أن يحترق فعلاً أي بعد أن يخوض التجربة وليس لأن الممنوع مرغوب كما قد يُظن، ولذلك يدعو معشر العقلاء والعظماء الناس إلى الاستفادة من تجارب الغير قبل شروعهم في أعمالهم مشاريعهم كما يدعو إلى الاستفادة من التاريخ ودروسه لأخذ العبرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام ” لايُلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين “، وما كان عمل الرسل في أقوامهم إلا أن يرسموا لهم منهج حياتهم وطرق التفكير السليمة وكان ديدنهم  – أي الرسل- أن يكونوا قدوة للناس كما هو ديدن العلوم الحديثة التي تسعى أو تستهدف الإنسان بشكل رئيسي عن طريق تنميته وتنمية طرق تفكيره وإرشاده إلى الطريق القويم والأمثل للتفكير ومعالجة منهج حياته وتقويم أخطائه.

ومثل ذلك في عالم التكنولوجيا هو الكتلوج المرفق بالأجهزة الالكترونية وما سواها، إذ أن المرء الذي يقتني جهازاً ولنقل حديثاً يستعصي عليه استخدامه ويتعذر عليه ذلك بدون الكتلوج فإما أن يخوض التجربة ويحاول استخدام الجهاز فتصل به المحاولة إلى تعطيل الجهاز حتى ولو كان خبيراً في الأجهزة لأنه لا توجد تعميمات مسبقة ومرجعيات يستند عليها في استخدام الجهاز وما تلك التعميمات سوى الكتلوج في أضعف الحالات وغيره الخبرات السابقة والتجارب وللسبب نفسه تقرر على أديسون إجراء ذلك العدد الكبير من التجارب للوصول إلى المصباح الكهربائي، أي أن العظمة ليست في النجاح في التجربة ولكنها في عدم اقتراف الأخطاء التي اقترفتها في التجارب السابقة وقد قيل ” حياة الناجحين مسلسل من الفشل “.

والتعميمات والمرجعيات السابقة أو ” الكتلوج ” هي ما يجعلنا نفعل الشيء ونشعر به ونخافه ونحذره ونحبه ونألفه وكل ما يمكن أن يخطر لنا من متناقضات فكرية أو شعورية أو سلوكية أو اجتماعية، وإلا فما الذي يجعلنا نمسك مقبض الباب ونؤمن بأنه سينفتح ؟ وكذلك الأمر مع كل الأشياء التي نصادفها في حياتنا، كل ذلك بسبب “الكتلوج ” والتعميمات السابقة التي نستند عليها فيما نحس ونشعر ونرى ونسمع ونهاب ونخضع، حتى في الدين والعبادة والتقديس والتعظيم والولاء والطاعة والعصيان كل ذلك مرجعه ” الكتلوج ” وقد عبد الناس الأصنام قديماً بسبب” الكتلوج” الذي أعطاه لهم آباؤهم ومن سبقوهم وكانت تلك حجتهم في معتقدهم، والمجتمع يعطي المرء كتلوجاً في طفولته ومراحل تنشئته الأولى يمكن أن نطلق عليه ” كتلوجاً اجتماعياً” فلا يتجاوزه وهو يتضمن كل شيء عن المجتمع وسيرته من عادات وأعراف وتقاليد ومعتقدات و…و….و….الخ.

والأمر بالمثل في عالم الاقتصاد والمعيشة والحياة ومتطلباتها فالإنسان يأخذ كتلوجاً ولنقل ثقافياً من خلال الكتب والمجلات والفضائيات والصحف وغيرها من الوسائل التي من الممكن اكتساب شيء منها ويتخذ من ذلك أي من الكتلوج الثقافي وسيلة ومنهج حياة ولا يختلف الأمر كذلك في اللغة وما نتحدث به ونتلفظه فكل ذلك جاء في الكتلوج الثقافي وكذلك الاجتماعي ويعرف هذا جيداً من نال حظاً من السفر والتنقل بين المجتمعات والمدن ومن جرب الغربة بغض مهما يكن سببها علمياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو دينياً.

ولكل دولة كتلوجاً تشريعياً ودستورياً تنتظم من خلاله حياة المواطنين وطرائق معيشتهم ولولا ذلك الكتلوج لاختلطت الأدوار وعمت الفوضى، وهذا الكتلوج هو الذي يحفظ للأفراد حقوقهم ويصون لهم حرماتهم ويأتمنون به على ممتلكاتهم ونفوسهم، ويختلف كتلوج الدول عن بعضها البعض عن طريق النظام المستخدم في الكتلوج كالديمقراطية والديكتاتورية و….و…و…إلخ من مذاهب وأنظمة، والمثير أن الدول القوية والعظمى تسعى إلى تعميم كاتلوجها على بقية دول العالم والذي أطلق عليه الــ” عولمة” وهو ديدن الأقوى كما يتصور ذلك في المشهد الأول من مسرحية ملامح شظايا بين الشخصيات الثلاث الأسير آربيوس وكليريوس وديثيوس.

وقد يخال البعض أن الحياة قد تكون بسيطة بدون ذلك الكتلوج على تعدد أنواعه والسبب هو أن التفكير عملية معقدة تقتضي التركيز ولعل أعمق حاجات المرء هي أن يخلق ويبدع ويُصير ولذلك قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم” فتبارك الله أحسن الخالقين” صدق الله العظيم وقوله “أحسن ” أي أن الإنسان أيضاً خالق وهو من أفعل التفضيل، لكن الملاحظ أن حب الراحة الذهنية والفكرية وحب التقليد وتبني أفكار الغير الجاهزة شائع عند غالبية البشر لذلك فهم يفضلون الاجترار وراء  الكتلوجات المشرعة واتباعها في تسيير حياتهم وتنظيمها وحتى في طرائق تفكيرهم وهذا ما يؤكده وليد دماج في “ظلال الجفر ” وقد قال الفيلسوف ديكارت” أنا أنساق من تلقاء نفسي إلى تيار أفكاري القديمة وأخشى اليقظة التي يتبعها التفكير المركز……….” ولذلك كان المفكرين قلة قليلة في العالم لأنهم هم أصحاب الكتلوجات، وإلا فلو ان أديسون وسواه من مخترعين كانوا يملكون كتلوجات قبل أن يخترعوا اختراعاتهم لما  فكروا ولما أبدعوا ولما أصبحوا من المنمازين في تاريخ العالم وبين الشعوب لأنهم هم أصحاب الكتلوجات وليس ذلك مقتصراً على العلوم التطبيقية بل إنه ليشمل كل المجالات وحتى الإنسانية. ولعل هذه القيمة التي تدعو إليها ملامح شظايا وتتمحور حولها، بيد أن ثمة مشكلة وهي أن التحرر يحتاج إلى نفوذ عقلية غير محدودة ومعرفة تامة بالحياة وتشبع كامل ذهنيا وفكريا من أجل تسويغ كاتلوجات غير ما انتهجته القطعان لها وإيمان مطلق بالحقوق وبما نريده لا ما يريده رجل السلة أو كاتلوج السيد الكبير..

رمزية الاسماء وسلطتها في مسرحية “ملامح شظايا “

المسرحية تتكون من خمسة مشاهد وكل مشهد يتناول موضوعا لتلتقي من ثم في الأخير كما تلتقي قطرات الغيوم في حضن الأوقيانوس العظيم، وتختلف الشخصيات في كل مشهد والأسماء فيها رمزية ولها سلطة تكشف خبايا النص وما وراءه وهذه الرمزية التي يستخدمها الكاتب تجعل للنص رصيدا جماليا وفنيا كبيرا يثري رصيد المضمون والبناء الشكلي والمعنوي.. واسماء الشخصيات في المسرحية كالتالي :

رجل السلة : ويحيل إلى النفايات التي تحكم المجتمع العربي وكيف تصبح النفايات تشريعات ونصوص تفرض على الناس لانتهاجها منذ نعومة أظافرهم وحتى الممات وهو ما يسمى بالتنويم الاجتماعي.

 الأسير آربيوس : ويرمز إلى العرب  وهو اختصار لكلمة عربي.

كليريوس : ويرمز إلى الوضوح.

ديثيوس : ويرمز إلى الموت والجهل والتخلف والمرض والفتن وكل ما يؤدي إلى الموت

شاب المسرح : يرمز إلى شباب الربيع والثورة أما المسرح فيشير إلى مسرح الحياة في الوطن العربي استلهاما من مقولة شكسبير ” الحياة مسرح كبير “

الرجل الدمية : يحيل إلى امتدادات لامتناهية من الشخصيات على الواقع التي تسعى دائما للتحقير من أي بادرة شبابية للتغيير والمشاركة السياسية حتى لو كانت في صفوف المعارضة فهي تخدم السيد الكبير والقذارة رغم محسوبيتها على المعارضة.

رجل المشنقة : رمز إلى جلاد السيد الكبير وحد من يخالف النص أو يخرج عن تشريعاته التي يكتبها رجل السلة.

السيد الكبير : شخصية غامضة تحيل إلى رجل الدين ورجل السياسة والحاكم المستبد.

المجنونة : رمز إلى المرأة التي لاينظر إليها كإنسان له عقل وإنما جسد فقط وهو يحيل إلى أن العقل غير مطلوب في المرأة في المجتمعات الذكورية.

الرجل الأعمى : هذه الشخصية تجسد قول الشاعر أبو فراس الحمداني (لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها / إذا لم يكن للمبصرين بصائرُ)

الشخصيات المغطاة : التغطية تعني الكفر في معناها الإصطلاحي وتعني أيضا اولئك الذين يؤمنون بحقوق الشباب والمرأة في المجتمع ولكن لو إنكشف الغطاء عنهم فأنشوطة رجل المشنقة تنتظرهم.

الاسم في مسرحية ” ملامح شظايا ” ثورة فيما يرمز ويحيل إليه، إنها ثورة تذكرنا بالجزئية ما قبل الأخيرة في رواية ” الجبل الخامس ” لباولو كويلو حين يتجمع من تبقى من المدينة ويقفون من أجل أن يعيدوا بناء المدينة التي خربها الأعداء الغزاة ثم يأمرهم البطل بأن يختار كل واحد منهم اسما له غير اسمه الذي سماه به والداه، اسم يتوائم مع ما يريد أن يحققه ويطمح إلى أن يكونه وهنا تتقاطع المسرحية التي نتناولها هنا مع هذه الرواية في ما تحيل إليه الأسماء فيها.

ولعل الأسماء واختيارها من أصعب ما يواجه الكاتب المسرحي، ومثله الناقد الذي قد يضطر أحياناً إلى إغفال مسألة تناول الأسماء أو التعرض لها بالشرح والتحليل والتفسير في النص وعلة اختيارها  لعدة أسباب، من ذلك عدم وجود مغزى للكاتب في اختيارها، أي أن هذا الاختيار كان عشوائياً، ومنها حقيقة الأسماء وواقعيتها، بيد أن ثمة أعمال أدبية مسرحية كثيرة كانت صناعة واختيار الأسماء فيها لها حساباتها الخاصة والدقيقة كما نجد ذلك في مسرحية “ملامح شظايا ” للجبري، ولها أهدافها وجذورها التي تضرب في عمق القضايا النفسية والفلسفية والاجتماعية للذات الإنسانية، ولعل أكبر تجسيد لهذا ومما نأخذه كمسوغات وبراهين لما نرمي إليه حكايات “ألف ليلة وليلة ” التي رغم كونها مجهولة الهوية بيد أنّ عظمة هويتها تقترن بالدقة في صنع وحبك التفاصيل الجوهرية للعلاقات الإنسانية،   والاحتراف والدقة والبراعة في رسم الشخصيات، والمعرفة العميقة بخبايا النفس البشرية وما تحمله من تناقضات، ولعل مما يدهشنا فيها وهو ما نحن بصدده قضية اختيار ” الأسماء ”  والمهارة في صناعتها لتتوائم مع مقتضى الحال، إذ كانت وفق معايير وقواعد نفسية دقيقة، تُجسّد السلطة التي يمتلكها الاسم وتتحكم في حياة الإنسان وطبيعتها، أيضاً تصف كيف يشارك الاسم في رسم ملامح الشخصية الإنسانية وتشكيل ملامحها في إطار سياق عام ومنظومة تحكي براعة الصانع وخبرة البنّاء في رصف الحجر، وتصف مشاركة الاسم في تشكيل التركيبة السيكولوجية والفسيولوجية، من ذلك وكمثال شخصية “علي الزئبق”، هذه الشخصية تتسم طيلة الحكايا التي تدور في فلكها وضمنها بصفة الزئبق الذي يستحيل إمساكه مثلما يستحيل إمساك علي الزئبق أو القبض عليه، كذلك شخصية ” النحّاس ” والذي يقترن بالنحس طيلة الحكاية وفي أي عمل كان يقوم به، وبالمثل نجد  شخصية “باسم الحداد” والتي تدور حكايتها في فلك “الحِداد” وهو حداد الموت “ثلاثة أيام “، أما الأسم الأول “باسم ” فعبر عن القصد من الحداد ويستهل به كقولنا “بسم الله ” ولكن بدون التضييق على ألف الوصل، وهذا المعنى للاسم يُجسد المعنى الإجمالي من الحكاية وفلك موضوعها، فباسم الذي كان عاملاً على باب الله،ليس له أُسرة يُعيلها، كان يخرج من مسكنه صباحاً لكسب ما يحتاجه في سبيل إحياء ليلته، إلى أن  يزوره أمير البلاد ووزيره متنكرين بعد أن يُغريهما مشهد مسكنه إذ كان مبعث خروجهما بهذه الأزياء وهذا التنكر البحث عن المتعة واللهو والأنس والمؤانسة، فيأتي مشهد مسكنه بنوافذه المشرعة التي ينبعث منها الضوء، وصوته الذي يُدندن بهِ، فيُشاركاه أمسيته، ويأخذ هو في وصف طريقة عيشته لهما، والتي يستسيغها الأمير ويروقه الالتفات إليها، لغرابتها وسذاجتها والطرفة التي تضج بها، يتبسم الأمير من ثمّ وقد راقه الأمر وانتابته رغبة عارمة في كسب شيءٍ من المتعة مع باسم المسكين الذي لم يعلم ما دار بخلد الأمير وما خبئه له القدر..!!

في صباح اليوم التالي يذهب باسم ليعمل كعادته، لكنه يفاجأ بالفرمان الحدادي الذي أعلنه الأمير في الجهة التي يكسب رزقهُ منها، ولأن باسم رجلٌ صلب فقد بدّل مهنته بكفاح، وبنفس الطريقة يكسب رزقهُ  ويقول ” سأُحيي ليلتي “، ثم يعود إلى مسكنهِ ليُحيي ليلته، ويزوره الأمير ووزيره متنكرين كما الليلة الفائتة، ويشاركاه أمسيته، ويسترسلا في الحديث معه، ويستدرجانهِ من حيث لا يدري ولا يحسب له حساباً، فيفصح لهما عما فعله في ذلك اليوم وعن المهنة التي كسب منها رزقهُ،  وبنفس المنوال يخرج في صباح اليوم التالي إلى مهنته الجديدة بيد أنه يُفاجأ بفرمانٍ حدادي جديد في هذه المهنة الجديدة، ويضطر بكفاح  إلى البحث عن مهنة جديدة في سبيل كسب ما يحتاجه لإحياء ليلته… وهكذا تستمر الحكاية حتى يصل الأمر بباسم جراء الفرمانات الحدادية المتتابعة إلى الانضمام إلى صفوف عاملي البلاط وحرسه، والتي تجعل الأمير يضحك من أعماقهِ كما تجعله يعجب بشدة بكفاح باسم وصلابة عزيمته وعدم يأسه فيكافأهُ بسخاء ويُجزلهُ العطاء…وتنتهي الحكاية…

وعليه ومن ذلك نكتشف أن السلطة التي كانت تتحكم في مسار الحكاية هذه والحكايات جميعاً وما دار في فلكها والطبيعة الجوهرية للشخصيات  أيضاً كلها كانت مرهونة بالاسم وسُلطته، ولعل أهم النظريات التي تتناول هذه التقنية بدقة نظريات نشأة اللغة  للعالم العربي أبو الفتح عثمان بن جني التي أوردها في كتابه الخصائص وأفرد لها بابين الأول ” تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني ” والآخر ” إمساس الألفاظ أشباه المعاني “، كذلك نجد هذا النوع من التقنيات ضمن ما ميزه ريفاتير من أنماط الاشتقاق المزدوج الخاص بالأسماء والعناوين وتقنيتها كما في كتاب ” قراءة في قصيدة النثر “لسوزان برناد ويعددها :

1-     اشتقاق صريح، ولكنه يُرد ضمنياً إلى اشتقاق آخر، يُثير مراجع صورية، ومعانٍ ضمنية توحيها الكلمة، لا وجود لها في النص، بتعبير أدق” عنوان النص يشير إلى غير ما يحتويه النص”.

2-     يمكن وضع اشتقاقين معاً في النص ولكنهما متنافران دلالياً إلى حدٍ ما ومثال ذلك نص “سطوع القمر” لكلوديل الذي عالج موضوعاً هو القمر مع أخبار خاصة بالشمس.

3-     اشتقاقان حاضران في النص- في الوقت ذاته- يتناقضان على الصعيد الأسلوبي.

وهذه الرمزية في الاسماء المختارة في مسرحية ملامح شظايا ترتبط جوهريا وموضوعيا بالثورة والتغيير والتمرد والرفض، وقد استحضر الجبري في مسرحيته بذكاء شديد مجموع الثورات الشعبية الشبابية من أرض الواقع، ويدفع بها بصياغة دراماتيكية جمالية مُحمّلة بكثير من المفاهيم والقيم الفكرية والاجتماعية إلى المسرح، من غير انفعال بمجريات الأحداث اليومية، أو غرق في طروحات ومقولات الأقطاب الحزبية، أو انحياز إلى هذا التيار أو ذاك، أو استسلام لنشوة الإنقلاب على الأوضاع العربية الفاسدة، التي ألغت دور الفرد في المجتمع قاصدة سلبه مواطنيته، وتعميق الفجوة بينه وبين النُخب والطبقات الحاكمة.

 

واقع المجتمع العربي

تصور مسرحية ” ملامح شظايا ” واقع المجتمع العربي ذلك الواقع المغرِّب الذي يحيل الشعب، وخاصة طبقاته وفئاته المحرومة، إلى كائنات عاجزة لا تقوى على مواجهة تحديات العصر، وكذلك إن المجتمع العربي مصاب بحالة الاغتراب.، فلا يسيطر على موارده ومصيره ويتداعى من الداخل حتى يكاد يفقد محوره وصميمه، فلا يملك إرادة وهدفاً وخطة، وتسيطر عليه مؤسساته بدل أن يسيطر عليها، فتستعمله وتسخر جميع موارده لخدمة مصالحها الخاصة أكثر مما تخدم هي مصالحه وتثبت مناعته وتقدمه..

وأن الشعب كما يتميز عن الطبقات التي تحكمه، عاجز تجاه الدولة والعائلة والدين ومؤسسات العمل وغيرها، وعاجز ضمنها، فهو يعيش في كابوس وليس في حلم.

إنه محاصر ودائرة الحصار تضيق باستمرار، فيضطر إلى الانشغال بمجرد الاستمرار.

والفرد كذلك يعاني أيضاً باعتبار الشعب فسيفسائية من الأفراد من حصار الدولة والدين والمؤسسات والتقاليد والقوانين والدساتير، والاغتراب، وسيادة الروح الفردية والانحرافات الاجتماعية، والنزعة الاستهلاكية، والتمسك بالتقاليد حتى وإن تحولت إلى مجرد طقوس (أفيون) خالية من أي مضمون..

وتسيطر الدولة على الشعب ولا يسيطر هو عليها، فلا تحميه منها قوانين ودساتير ومناقب، ويتصرف الحاكم وكأن البلاد امتداد لذاته. كما أن المؤسسات الدينية أغرقت المؤمنين في التقاليد التي ترسخت في عصور التخلف، فبقدر ما يضعون من أنفسهم بها بقدر ما تصبح قوية غنية، فيما يصبحون هم عاجزين فقراء حتى في طلب نظرتهم إلى حياتهم (هذا بالإضافة إلى نقل الثقافة من عالم النسبي إلى عالم المطلق وتسويغ الواقع وإحلال الماضي مكان المستقبل.

وانطلاقاً من أيديولوجية عائلية هرمية على أساس الجنس والعمر (الأب معيل والنساء والأبناء عيال)، تعمم دور الأب إلى العمل (يتصرف رب العمل مثل رب الأسرة) والتربية والسياسية والعبادة (الأستاذ والحاكم ورجل الدين آباء، والتلامذة والمواطنون والمؤمنون أبناء).

وسلبت مؤسسات العمل العامل والموظف سيطرته على إنتاجه وحرمته من الإبداع والاكتفاء الذاتي في عمله، فأصبح يفتقر بقدر ما ينتج ويعمل لمصلحة غيره على حسابه، قديماً قال ابن تيمية أن “الله خلق الخلق لعبادته” وأصبح واضحاً أن مؤسسات الدولة والعائلة والدين والتربية والعمل تتصرف وكأنها خلق الإنسان لعبادتها.

وتتصل بحالة الاغتراب العامة هذه، مشكلات التفكك الاجتماعي وخلخلة القيم، والتبعية، والطبقية، وسلطوية الأنظمة، وغياب الديمقراطية.

ولم يرزح الجبري في ملامح شظايا  إلى تأثر هش بمجريات الأحداث منفعلا بنصف وعي معها، بل ترك لنفسه وقلمه فرصة ديناميكية للتفاعل مع الأحداث، تارة من الداخل بوصفه ابن المرحلة، ويشكل مع غيره امتداداً ثقافياً قومياً للثوار العرب من المتطلعين إلى هدم النظم السياسية الاستبدادية وبناء مجتمعات عربية ديمقراطية عبر شراكات ثقافوية شعبية، لا تعترف بالحدود الجغرافية والتصنيفات الطبقية والفواصل العرقية والطوائفية… ليكون هذا النص أول عمل يمني مسرحي تعاطى درامياً مع موضوع الثورات العربية.

وتارة أخرى يأتي تفاعله مع الأحداث ديناميكياً أيضاً، ولكن من الخارج أي عن بعد، وذلك بمقدار ما تمنحه المسافة السياسية الكائنة بينه وبين الأحداث من حرية لقراءتها قراءة تأويلية من موقع المبدع الفاحص للأمور.وبالتالي نقدها، ونقد افرازاتها ومعطياتها وتوجهاتها نقداً موضوعياً هادفاً..  وهذا بالضبط ما سعى إلى تحقيقه قدر عزيمة أهل العزم من الشبيبة المسرحيين المثقفين الغيورين على أوضاع العالم العربي والإنسان العربي.

ثورة المرأة وذكورية المجتمع العربي

يقول الجبري في مشهد المجنونة على لسانها :

( المجنونة : عندما يصير العقل سلعة راكدة يرتفع سعر الجنون.. يزداد صوتها حدة وعنفاً ) :

فكلكم يسعى لأن يعزف على كل ذرة في جسدي إلا العقل.. كلكم يسعى لأن يعقد قرانه عليّ حاملين لي في شنطة الهدايا كفناً جميلاً..

(تصمت ويتهدج صوتها فتكمل ):

وأنا لا أبحث عن المستحيل……

أريد منكم أن تنتقموا لي من كل العقول التي تسعى لتجميل وجهي وبهرجة مفاتني فقط ولا تعير عقلي أي اهتمام ولا تزينه بما يجمل حياتي (تصل إلى ذروة انفعالها وهي تفتح ذراعيها وتنظر إلى الأعلى وترتجف كل ذرة فيها وهي تصرخ ):

أيها السادة.. أريد أن أطير بعقلي في فضاء صلب أضع قلبي على رخامه وأحلق بعيداً في طُهر..

أريد أن أحيا بعقل، حتى لا أكتشف عندما أموت أنني لم أعش..) (ملامح شظايا ص 22).

إن البديل الوحيد لفلسفة رفض جميع القيم دينية وخلقية هو الثورة. وإن قول نيتشه الصلف ” أنا أريد ” إنما كان استجابة اليائس لكون لامعقول.

إن الثورة الحديثة كلها، على حد قول البير كامو :” ولدَت من مرأى اللاعقلانية، في مواجهة ظروف غير عادلة وعسيرة على الإدراك “.

ولما كان الكاتب المسرحي الحديث يواجه اللامعقولية الميتافيزيقية نفسها، فقد راح يتلقى تحدي ” نيتشه ” متخذاً موقف الرفض الذي يجعله في صراع مع قوانين الضرورة الحديثة. فهو يرفض الدين والمجتمع والأسرة – مؤيداً حقوق الفرد ضد مزاعم الحكومة، والأخلاق، والعرف، والقواعد، يتخذ موقف المتمرد، متبرماً بالقيود عاقداً العزم على تحطيم كل الحواجز “.

وفي مشهد المجنونة في المسرحية يحتفي الحوار الدائر بينها وبين الشخصيات المغطاة  بمساوئ الرجل والموقف السلبي للحكومات تجاه المرأة في المجتمعات الذكورية، وعليه فإن معاناة المرأة في المجتمعات الذكورية المتسلطة تجعلها جديرة بأن تكون راعياً لمبادئ الديمقراطية ومرسيا لقيم المساواة وعدم التمييز وإنصاف الحقوق، لكن ومع الأسف كان الهروب إلى عصر ديكتاتوري جديد متسلط على المرأة وحقوقها في السابق وسيكون كذلك بتغييرات الربيع المستجدة…

وهذا ببساطة لأنه لن يرعى حقوقك ويعرف بمدى معاناتك إن حقا لديك معاناة وليست مجرد ألعاب نارية ومفرقعات سياسية من أجل نيل ما تحلم بهِ من سلطة وكان الربيع والدماء التي سالت وتلك الشعارات والهتافات مجرد جسر للعبور إلى الحلم الذي عجز العاجزون عن تحقيقه لعقود من الزمن، لن يعرف بكل همومك سوى من يعيشها مثلك، أما المغردون خارج السرب وخلف واحة العيون، المراهنون على فشلهم، فكان جديرٌ بالربيع وأهلهِ أن يبدأ بإسقاطهم قبل أن يفكر في أن يسقط أنظمة الحكم، وعليه فإن المرأة كانت أجدر من يتولى هذا المنصب، لن أضرب للتدليل على هذا بأمثلة من التاريخ حتى يقول المتقولون ويردوا بما جاء في الأثر ” ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” وهم يجهلون تماما معنى الولاية المقصودة في هذا الأثر كما يجهلون لماذا لن يفلحوا من فعلوا ذلك، ولن أقول أن الله بعث سليمان عليه السلام إلى أهل سبأ بتلك المعجزات التي لم تنبغِ لنبيٍ قبله أو بعده، لأبرهن بذلك على عظمة الحكم الذي وصلت إليه تلك المملكة في عهد تلك الملكة ودلل عليه القرآن وكان من أهم ما يجدر بنا كيمنيين الالتفات إليه ومعرفته حتى يرشدنا إلى معنى الديمقراطية والشوروية التي نستوردها الآن من الآخر في حين أننا مارسناها في عصر تلك الملكة قبل العالم كله، ومنذ ثلاثة آلاف سنة، أي أن العالم ينبغي بالضرورة في حال وعينا هذا أن يعتبرنا نحن مرجعيته في هذه الديمقراطية والمدنية وأنظمة الحكم،  وعليه فإن تقلد المرأة في نهاية موسم قطاف هذا الربيع هو من باب التجربة أولا ومن باب الإنصاف ثانيا وهروبا من تسلط الكهنة والسياسيين ألا يعبروا على دماء الشهداء وأوجاع الوطن إلى مئاربهم التي لايعلمها إلا الله…

ولعل عصر الديكتاتورية الذكورية ضد المرأة سيبدأ عصراً جديداً في ظل مخرجات الربيع التي وصل إليها، ولا أقصد بالديكتاتورية الجديدة أن نظام الحكم السابق كان كذلك ولكن فيما يخص التعامل مع المرأة فقط أي أن المجتمعات العربية الذكورية هي الديكتاتور والآن نصبت ديكتاتورا بنظام ديكتاتوري جديد حتى أن بعضهم قد وصلت به الجرأة إلى القول بأن الخطاب القرآني خطاب ذكوري وقد حررت رسائل دكتوراة وماجستير في هذا، وكأنهم بلا شعور يرددون ما جاء في الفكر والمعتقد اليهودي الذي يقول أن لفظة “إنسان ” لا تطلق إلا على الرجل فقط أما المرأة فلا..

قال محمود درويش في آخر قصيدة له ” لاعب النرد” : أدرب قلبي على الحب / ليتسع الورد والشوك/ وأنا من أنا الآن إلا عندما تلتقي الاثنتان ” أنا وأنا الأنثوية “… ودرويش هنا يؤكد نظرية عالم النفس كارل يونج ” التعلل والانتقال” أي أن الإنسان ثنائي الجنسية، فداخل كل رجل يوجد حس أنثوي يسمى ” الأنيموس” وداخل كل أنثى حس ذكوري يسمى ” الأنيما” وهما ما يحقق التوازن لدى الإنسان باشباعهما، وهو أيضا الميل الغريزي للرجل تجاه المرأة، والميل الغريزي للمرأة نحو الرجل، لتحقيق هذا التوازن، أي أن التعدد في الكيان البشري من خلال هذا يؤكد فكرة التعددية “الناموس الذي خلق على أساسه هذا الكون” أي أن الصراع بين الرجل والمرأة هو صراع عقيم لايولد إلا المزيد من الانقسامات والنكوص والتردي في المجتمعات، ومسألة أن تحكم المرأة وأن تكون لها السيادة أمر مهم جدا أن يتحقق ليس من أجل المساواة ودروس التاريخ مثل قصة الحضارة الكبيرة التي تحققت في عصر ملكة سبأ والمعجزات التي سوغها الله لسليمان عليه السلام ولم تؤت لنبي قبله او بعده حينما بعثه بها إلى أهل المملكة كتأكيد على عظمتهم فكل قوم بعث الله نبيا اليهم كانت معجزاته من جنس ما هو موجود لديهم فالطب لعيسى والسحر لموسى والبيان لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أي أن الاشياء ليست لها قيمة إلا لدى مستهلكيها، ولهذا كانت مملكة عظيمة تؤكدها عظمة المعجزات التي وهبها سليمان عليه السلام، وغير كل هذا الذي يؤكد استحقاق المرأة لتولي زمام ومقاليد الحكم هو معاناتها التي تجعلها أكثر رقيا ومعرفة ما يحتاجه المجتمع بكل فئاته وهذا ينطبق على كل المجتمعات وما الحضارة السبئية سوى تأكيد على قدرة المرأة وهناك أمثلة كثيرة ليس هناك مجال لذكرها..

وهذا دحض لقول القائلين أن الخطاب القرآني يخص الرجل وحده طالما وقد أُثبتَ أن الإنسان ثنائي الجنسية، حتى من القرآن نفسه..

وثمة سؤال ضمني في النص الخاص بموضوع المرأة في مشهد المجنونة في ” ملامح شظايا ” مؤداه  : إذا كان الأمر هكذا فلماذا خاطب القرآن الحس الذكوري لدى المرأة وأغفل الحس الأنثوي…؟!

الجواب : لأن مخاطبة الحس الأنثوي تختص بالجهة الغريزية، والقرآن لم ولا يخاطب الغرائز، ومخاطبة الحس الذكوري لدى المرأة هو نوع من المساواة في الخطاب بين الرجل والمرأة ونوع من العدالة الإجتماعية مع عدم اغفال أنوثة المرأة وماتتطلبه في حياتها….أي لها نصف حظ الرجل من ذلك الخطاب كما للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا أقصد أن مخاطبة الحس الذكوري في المرأة له علاقة بفهمها ولكن لأن مخاطبة الحس الأنثوي يعني مخاطبة الغريزة والقرآن لايخاطب الغريزة، وأيضاً وهو الأهم يحملها النصف فقط من مستوجبات الخطاب..

بمعنى أن هذا الخطاب للحس الذكوري في المرأة راعى حياة المرأة الاجتماعية وواجباتها وجعل الخطاب للانثى فيها من اختصاص الرجل لتقوم الحياة وتستمر…وراعى اشياء كثيرة.

المرأة عظيمة، ووجود نساء سيئات في هذا العالم يقابله رجال أسوأ ومجتمعات فظة ومتخلفة لاتبدع إلا في صناعة الإنحراف والجريمة، ويقابله أيضا وجود تلك الفئة الجيدة التي تجبرك بأحاسيسها الراقية وإنسانيتها أن تغفر ليس فقط للنساء السيئات بل للعالم بأسرهِ وتجبرك أيضا كما عن غير قصد أن تحب كل نساء العالم، وبرأيي لو كان الشيطان يعرف له صاحبة كما أنعم الله على آدم بحواء لما كان رفض أن يسجد لآدم…لالشيء إلا لأنه كان سيجد في هذه الدنيا مايستحق التشبث لأجله….!!

الصراع بين الخلق والتقليد في المسرحية

إن أعمق حاجات الإنسان هي أن يخلق ويبدع ويُصيّر، قال تعالى ” فتبارك الله أحسن الخالقين “..

وواضح أن أزمة الذهن العربي, كما يصور عبدالخالق في ” ملامح شظايا ” عدا تقديس الأسلاف ( atavism)  وعبادة الماضي, واعتقاده بمقولة (لا جديد تحت الشمس ) هي أنه فقد قدرته على الخلق, لا أعني فقط قدرته على خلق عالمه, وتصميم الدنيا التي يحيا فيها بل, وهو الأهم،  قدرته على تصميم نفسه, على إعادة الصياغة, على أن يكون لديه جديد كل ليلة , الذهن الذي يحفظ أو ينقل أو يقلد يصاب بالشلل إن فقد ماهيته أن يخلق ويبدع ويصير، ولا غرو من أن كل ذهن فقد قدرته على تصميم نفسه سيقوم غيره بتصميمه..

لم يكن دقيقاً ما قاله بورخيس عن الكتب , من أن الناس في حقيقة الأمر يظلّون يتوارثون كتاباً واحداً

عن gamdan

شاهد أيضاً

الممثل المسرحي الشاب سعد عطاء: أحب أداء الأدوار الكوميدية..والمجتمع متعطش للمسرح والترفيه

‏‏  5 دقائق للقراءة        997    كلمة الحديدة نيوز_ لقاء_عرفات مكي في الوقت الذي لا يوجد في اليمن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *