اسكتلندا: تجربة العيش في “أسعد” مكان في بريطانيا

‏  8 دقائق للقراءة        1464    كلمة

8

اسكتلندا: تجربة العيش في “أسعد” مكان في بريطانيا

الحديدة نيوز/خـــــــــــــــاص

ربما تكون جزر هبرديز الخارجية، التي تسمى بالجزر الغربية، مطيرة ونائية وباردة، لكن سكانها هم الأسعد على مستوى المملكة المتحدة. فما السر وراء هذه السعادة؟

كان الليل قد أوشك أن ينتصف، لكن الظلام لم يحلّ بعد. ولولا الخطوط الوردية التي لاحت في أفق مضيق “مينش”، الذي يفصل جزر هبرديز الخارجية عن الجبال في ساحل اسكتلندا، لما علمت أنه وقت الغروب.

ويمكن الوصول إلى جزر هبرديز الخارجية إما بطائرة صغيرة أو عبّارة. ويقطن هذه الجزر 26 ألف شخص، كنت أنا واحدة منهم قبل أن انتقل إلى مدينة نيويورك منذ ثلاث سنوات.

وها أنا قد عدت إلى وطني، إذ يطلق أغلب سكان هذه الجزر عليها وطنهم، مهما طالت المسافة التي تبعدهم عنها. وكانت هذه أول إجازة صيفية أقضيها في جزر هبرديز منذ أن رحلت عنها.

لا تزال الجزر تحتفظ بجمالها كما عهدتها. هذه الجزر لا ترى الظلام صيفا إلا لساعات قليلة بعد منتصف الليل. وفي النهار، تتلألأ الأزهار الصفراء على جانبي الطرق الضيقة، وتتمايل سيقان الأزهار البرية البيضاء الشبيهة بالقطن مع الرياح الخفيفة.وقد تفتحت أزهار الخلنج البنفسجية التي تغطي مساحات شاسعة من الأراضي البرية داخل الجزر.

وسادت شوارع مدينة ستورنواي، أكبر المدن في جزر هبرديز، أجواء احتفالية، مع استعداد سكان المدينة وزوارها لمهرجان الموسيقي الكلتية الذي يقام سنويا في المدينة، ويسمى “مهرجان الموسيقى الكلتية بجزر هبرديز”.

ولكن هذه الجزر لم تكتسب شهرتها بسبب جمالها فحسب، ففي السنوات الثلاث الأخيرة منذ أن رحلت عنها، كانت مثار اهتمام إعلامي بعد أن تصدرت قائمة المناطق الأسعد في بريطانيا.

وفي الاستبيان السنوي عن السعادة والرضا في المملكة المتحدة، الذي نشره المكتب الوطني للإحصاء، كان تقييم سكان جزر هبرديز الخارجية لسؤال “إلى أي مدى شعرت بالسعادة أمس؟” هو الأعلى بين سكان سائر المناطق في المملكة المتحدة.

كما حلّ سكان جزر هبرديز الخارجية في المراتب الخمس الأولى في مؤشر الرضا عن الحياة.

انطلقت في رحلة إلى جزر جزر هبرديز، زرت فيها الأماكن التي كنت أتردد عليها في الماضي والتقيت مجددا بعائلتي وأصدقائي القدامى، لأكتشف ما الذي يجعل سكان جزر هبرديز من أسعد السكان على مستوى المملكة المتحدة.

ومع استمتاعي أنا وأخي بتناول الغداء في الهواء الطلق بأحد المطاعم التي تبيع منتجات المزارع المحلية الطازجة بالجهة الغربية من جزيرة لويس، والسير على رمال شاطئ دال مور، وهو من أفضل الشواطئ في الجزيرة ويبعد أميالا قليلة عن الطريق المعبّد، أدركت على الفور أنه ليس من الصعب أن تعرف سر السعادة في هذا المكان.

وتساءلت حين كنت أدوس على رمال البحر الجافة بحذائي المطاطي، بينما تتهادى مياه المحيط الأطلنطي بالقرب مني، “من الذي لا يشعر بالسعادة في هذا المكان؟”.

ولكن ما هو الأمر المميز تحديدا في هذه الرحلة الذي غمرني بالسعادة؟

طرحت هذا السؤال على جورج ماكرون، المحاضر بجامعة ساسكس، الذي يدرس العلاقات بين البيئة والسعادة، والذي دشن تطبيقا لهاتف الأيفون، يسمى “مابينسّ”، في إطار رسالة الدكتوراة التي يحضرها عن الرابط بين السعادة وجودة البيئة.

ويرسل هذا التطبيق رسائل لمستخدميه ليسألهم عن مكانهم وهويتهم وشعورهم في أوقات محددة من اليوم.

وتلقى هذا المشروع الذي دشن في عام 2010 ثلاثة ملايين ونصف إجابة من 65 ألف شخص على مستوى المملكة المتحدة.

ولم يتوصل ماكرون إلى أن الناس أكثر سعادة في البيئات الطبيعية فحسب، بل أن نتائج تحليل بيانات “مابينس” المبنية على الرموز البريدية للمستخدمين أيدت أيضا نتائج المكتب الوطني للإحصاء، إذ أشارت إلى اقتراب سكان جزر هبرديز من صدارة قائمة الأماكن الأكثر سعادة في المملكة المتحدة.قال ماكرون: “تظهر لنا النتائج أن سعادة الناس تزيد في اللحظات التي يكونون فيها في البيئات الطبيعية، وأن جميع البيئات الطبيعية تشيع فيها السعادة أكثر من المدن”.

وأضاف: “ثمة سلم للبيئات الأكثر سعادة، على رأسه المناطق القريبة من البحار، والحواف الساحلية، وتليهما سائر الأماكن بفارق كبير”.

وتشير الأدلة إلى أن الاقتراب من المياه أو ما يطلق عليه “المساحة الزرقاء”، من المحتمل أن يجعلنا أكثر سعادة، وما أكثر الشواطئ في جزر هبرديز الخارجية.

وفي الساحل الغربي من جزيرة هاريس، ترى المياه بجميع درجات اللون الأزرق، من الأزرق الداكن إلى السماوي الفاتح. وفي مجموعة جزر يويست الشمالية ويويست الجنوبية، تشعر كأن المياه تحيط بك من جميع الجهات، إذ تغلغل البحر داخل اليابسة مشكِّلا مجموعة من البحيرات.

ومن الأنشطة الشائعة في الجزيرة بالطبع الرحلات البحرية سواء على متن سفينة في نزهة بحرية أو على متن عبارة للوصول إلى الجزر.

وذهبت في رحلة في منتصف النهار على متن قارب إلى جزر شانت غير المأهولة حاليا، والتي تقع على بعد أربعة أميال من الجنوب الشرقي لجزيرة لويس.

وشعرت برهبة من الوقوف في مكان لم أزره من قبل لأطل على مشهد مألوف، وأبهرتني روعة منظر آلاف من طيور البفن والغلموت وهي تغطس في المياه الصافية.

ولكن هذه المناظر الطبيعية التي قد تبعث على السعادة، لا تحتفظ بهذا القدر من الجمال بعد انتهاء فصل الصيف، وقد رأيت ذلك بنفسي حين كنت أعيش هنا.

إذ يتوارى هذا المشهد خلف الأمطار الغزيرة، وليل الشتاء الطويل، والرياح العاتية التي قد تصل إلى 100 ميل في الساعة. فكيف يظل سكان جزر هبرديز الخارجية سعداء طوال أيام السنة؟

يقول دونالد ماكسوين، الذي يمتلك مزرعة صغيرة في جزيرة لويس ويعمل مذيعا بالراديو: “إن سكان الجزيرة أنفسهم يبعثون على السعادة، فأنا استمتع بالذهاب بين الحين والآخر إلى المتجر، وأتجاذب أطراف الحديث مع كل الأشخاص الموجودين هناك، وهذه الأنشطة الاجتماعية تدخل السعادة والبهجة على النفس”.

ويتابع: “كل مجتمع يحتاج إلى مركز للأنشطة الاجتماعية. ونحن لدينا عدد لا بأس به من المراكز الاجتماعية، وكل مجتمع في الجزر الغربية سيكون لديه مركزه الخاص للأنشطة الاجتماعية”.

وأمضى ماكسوين حياته في جزر هبرديز، ويزور غلاسغو بانتظام، حيث درس في جامعة غلاسغو، ولكنه يسعد دوما بالعودة إلى الجزر، ويقول: “إن ما يربطني بالجزيرة هو سكانها”.

وفهمت قصد ماكسوين، وتذكرت أصدقائي القدامى حين جلسنا نتحدث معا حتى وقت متأخر من الليل في بداية الأسبوع، والجيران الذين لازموني منذ الطفولة، وأقاربي الذين أصادفهم في المتجر. كل هذا جعلني أعي كل كلمة يقولها ماكسوين.

وقد أكدت الأبحاث أهمية هذا النوع من الروابط الاجتماعية في زيادة الشعور بالسعادة والرضا. ويقول جون إف هيليويل، الأستاذ المتقاعد بجامعة بريتيش كولومبيا: “إن الشعور بالانتماء للمجتمع له أكبر أثر في تفسير الاختلافات التي نلحظها في معدل الشعور بالرضا عن الحياة من مجتمع لآخر”.

وقد خلص البحث الذي أجراه هيليويل في كندا إلى أن المجتمعات، بشكل عام، كلما كانت أصغر، زاد فيها الشعور بالانتماء والثقة بين الجيران، وزاد الوقت الذي يقضيه أفرادها مع أهلهم وأصدقائهم. وهذه النتيجة لم يستغربها أي شخص تحدثت معه.

وتقول كلير ماكليود، التي عادت إلى الجزر بعد أن أمضت 18 عاما في البر الرئيسي لاسكتلندا، وتشارك الآن في إدارة شركة “أوربت إيجنسي” للوسائط الرقمية: “ما سر السعادة التي تغمر الناس في هذا المكان؟ أقول إن سر السعادة يكمن في السكان أنفسهم”.

وتضيف: “إننا ننعم هنا ببيئة رائعة، سواء من حيث المناظر الطبيعية أو طبيعة حياة السكان. فالجزر ثرية بالمشاهد الرائعة، كما أن سماءها رحبة، وهواءها نظيف، ومياهها نقية، والأمان أيضا يمثل عاملا كبيرا في الشعور بالسعادة”.

وتتابع بالقول: “لكنني أرى أن هذا المكان الذي تسوده روح المودة والألفة بين أفراد المجتمع ويعطي أولوية للروابط الأسرية هو من أنسب الأماكن للعيش والعمل”.

وتابعت: “قد تبدو هذه المشاعر مثالية وغير واقعية، ولكننا في جزر هبريدز، نحمل حنينا لهذا المكان بين جوانحنا أينما ذهبنا، وأعتقد أن هذا الحنين أقوى من الانتماء إلى المجتمع. إنه الارتباط، الذي أسميه ‘التعلّق بالمكان’. وكل شخص يحب شيئا ما في هذا المكان، ولكن ما يميز هذا المكان عن غيره هو سكانه”.

ومع انتهاء إجازتي الصيفية في جزر هبرديز، صعدت إلى أول طائرة في رحلتي التي سأتنقل فيها بين أربع طائرات لتنقلني إلى موطن آخر بعيدا عن موطني، وجالت في خاطري كلمات ماكليود.

وحين شاهدت الأراضي البرية، والبحيرات والشواطئ وهي تختفي تدريجيا تحت السحب، عرفت كم هي محقة. نحن نحمل هذا المكان بين جوانحنا أينما ذهبنا، سواء كنا في بلاد بعيدة أم قريبة.

وبهذا التعلّق الوثيق بالسكان والمكان، لا عجب أن تكون جزر هبريدز الخارجية من أسعد الأماكن في بريطانيا.

عن gamdan

شاهد أيضاً

دعــــــاء.. فتاة تصرخ تعبت من العنف 

‏‏  7 دقائق للقراءة        1274    كلمةدعــــــاء.. فتاة تصرخ تعبت من العنف  الحديدة نيوز // عائشة حسين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *